اشفع لي يا بُنيّ
بسم الله الرحمن الرحيم
المشهد العام:
الحي:
ـ إطلاق نار كثيف من الرشاشات، وبعض قذائف المدفعية، والطائرات في الأجواء.
ـ هناك عزاء للشهيد سعد، وهو في منتصف ربيعه الثالث.
الشارع:
مكتظ بأطفال المدارس الذين يتراكضون ويتوارون من الرصاص، وقليل من المارة يتراكضون.
المنزل:
ـ الجد (أبو صابر): منزوياً في باحة المنزل الغير مسقوفة، بعيدًا عن الرصاص المنهمر.
ـ الوالد (أبو ناصر): على سجادة الصلاة وقد أنهى صلاة الظهر ويسبح لله.
ـ الوالدة (أم ناصر): في المطيخ تجهز طعام الغداء وتغني " يا حلة العدس الدافي.. تسلم إيدين إللي طهاكِ".
ـ أطفال صغار يلعبون ويغنون معاً:
"ماما راحت على السوق... اشترت خوخ وسكر... وعملت النا مربى... وحطت النا واكلنا... زاكي كثير المربى ... تسلم إيدين الماما ... إحنا نحبك يا ماما.
بابا راح على السوق ... واشترى جناحين فراخ ... نضفتها الماما .... وتبلتها الماما ... واحنا شعلنا الكانون... بابا يشوي واحنا ندوق... تسلم إيدين البابا... احنا نحبك يا بابا.
جدو رجع من الحج... وجاب النا حاجات كتير... ابلوزات وبنطلونات... ومناديل وجلبابات... وجاب النا ألعاب كتير... حلوه كتير الهدايا... تسلم تسلم ياجدو... إحنا نحبك يا جدو..
يدخل الطفل ناصر من الباب يحمل شنطة الكتب المدرسية: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته يا جدي.. يسلم على جده ويبوس يده ورأسه، ويقول: جهز حالك لحكاية قرية فلسطينية جديدة اليوم.
الجد: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، عليك الأمر وعلينا التنفيذ يا حبيب جدك.
الطفل: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته يا أحلى أب في الدنيا، يسلم عليه ويبوس يده ورأسه.
الوالد: عليكم السلام ورحمة الله وبركاته، الله يرضى عليك ويحبب فيك خلقه.
الطفل: يذهب إلى والدته؛ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته يا أطيب وأحن أم في العالم، ويقبل يدها..ما أحلى ريحة البصل في إيديك..
الوالده.. مش عاجبك البصل، هلقيت نشوف.. الله يرضى عليك.
الأم تقدم طعام الغداء.. فتة عدس، مع بصل أخضر وفجل.
تناول الجميع الغداء وحمدوا الله واستعدوا لشرب الشاي.. وبعدها سيذهبون إلى بيت العزاء، فالشهيد خال الطفل ناصر.
جاء الشاي..ويحضر ناصر دفتره ويسأل والده..
ناصر.. أبِي، مَا هِيَ اتفَاقِيّة حُقُوقِ الطّفلِ؟
لقد سألتنا عنها المُدَرِّسَةُ اليوم.
الوالد: طب استنى لما نشرب كباية الشاي..
ناصر: خير البر عاجله، وبعدين منت بدك تروح على العزاء وما بترج قبل المغرب..
الوالد: حاضر يا سيدي، إن شاء الله يكون تعبنا على خير.. شوف وما تشوف إلا كل خير.. حقوق الطفل يا ناصر، حقوق مكفولة لدى كل مجتمعات المعمورة، حتى عند الحيوان في الغابات.
ناصر: والله شفتهم في برنامج عالم الحيوان، ولكن ما هي المعمورة يا والدي؟
الوالد: هي الدنيا وما عليها من مجتمعات وشعوب؛ إن في دول مستقلة، أو تحت نير الاحتلال مثلنا، وعالم الحيوان، وعالم البحار، والصحارى وما يدب فيها من هوام وحشرات، وحتى البكتيريا التي لا نراها، وكل الشعوب ودولها تعترف للطفل بحقه في الحياة الحرة الكريمة، وتعترف له بحقه في أن يولد حراً، ويحمل اسما، ويكون له جنسية، وجواز سفر، وحرية السفر برفقة والديه، وأن يُكفل له حق رعاية الوالدين، وحق الرعاية الصحية، والتعليم، والسكن المناسب، والملاعب والحدائق…
ناصر مقاطعاً..
عفواً يا أبي، لم أقصد المقاطعة، ولكن هل هذا حقيقي أم في المسلسلات التلفزيونية؟
الوالد: إنه حقيقي يا بني، ولقد عُقدت عدة اتفاقيات، كلها محفوظة لدى الأمم المتحدة..
ناصر يقاطع مرة أخرى ومعتذراً.. الأمم المتحدة التي توزع علينا التموين وما يقولون عنه الكوبونات؟
الوالد: نعم يا بُنَي.
ناصر: ولكن هذه الأمم المتحدة كذابة، وتضحك علينا.
لقد قال لي جدي أنها أصدرت قرارات بالجملة، لو فُرِشت أوراقها لغطت مساحة فلسطين، هكذا قال جدي، تطالب بعودتنا إلى ديارنا، وتطالب إسرائيل بالانسحاب، دون فائدة، وقال لي أنها نفذت القرارات على العراق فوراً..
الوالد يقاطع ابنه..
يا بني؛ يا بني؛ كل الذي قاله جدك صحيح، وأنا أقول لك ما حك جلدك مثل ظفرك، فتولَ أنت زمام أمرك، هكذا يقول المثل.
وأيضاً يقول: من كان رغيفه من غير فأسه، كان قراره من غير رأسه.
ناصر: ماذا يعني هذا يا أبي؟
الوالد: وهناك مثل يقول: "من قِلّة الخيل شَدّينا على الكلاب سروج".
أي أننا ضعفاء وهم يستغلون ضعفنا.
ولن نكون أقوياء إلاّ بتمسكنا بديننا، وتضحيتنا في سبيل الله والوطن، وأن نعرف متى وكيف تكون التضحيات؛ أي يجب أن نكون مسلمين بحق، وليس في بطاقات الهوية فقط.
وأن لا نقتل بعضنا من أجل الكرسي والمنصب.
يستمر الوالد.. الله يرضى عليك؛ حرَّكت مواجعي، والله يا بُني أن النيران تقيد في جانبي من حالنا وحال العرب والمسلمين.
موال طويل أقصه عليك في وقت آخر على حلقات زي المسلسلات العربية، لكن بدون كذب وتزييف…
نعود لموضوعنا؛ حتى تستطيع أن تُجيب المُعلمة وتأخذ الدرجة الكاملة.
الوالد يكمل الحديث: حقوق الطفل كَفِلتها الاتفاقيات في زمن السلم وزمن الحرب، وكَفلت حمايته من أخطار الحرب، كما كفلت حمايته من الأمراض الفتاكة، كما كفلت له حق وصول الحليب إليه نظيفاً خالياً من أي غش، تتغير نبرة صوت الوالد وتعلو وتصبح منزعجة، وفيها غضب: اسمع، اسمع. ماذا؟ خمسة عشر شهيداً معظمهم من الأطفال، الله أكبر، اسمع يا بني.
التلفاز يذيع نشرة الأخبار بالتفصيل:
المذيع: نشاهد في هذه الصور التي تُبث من رفح، من مكان الحدث مباشرة، شارع البحر القريب من دوّار زعرب، الدبابات الإسرائيلية تقصف مسيرة سلمية لأبناء رفح متجهة إلى حي تل السلطان، حيث اقتحمته دبابات الاحتلال، وتحاصره منذ أسبوع بدون ماء ولا كهرباء، وعاثت فيه تدميراً، وقتلاً، كما ورفضت قوات الاحتلال السماح لمنسق الأمم المتحدة والوفد المرافق له من الدخول إلى المخيم ليرى ما يجري على الأرض وتقديم العون، كما منعت سيارات الإسعاف من الوصول إلى الجرحى.
المذيع يسأل المراسلة: جيفارا؛ هل هناك مقاومة فلسطينية، أو مسلحين في المكان؟
المراسلة: لا أخي جمال أبداً؛ كلهم من المدنيين، وفيهم أطفال مدارس دون سن الثامنة عشر، والمسيرة سلمية، وصل عدد الشهداء إلى ستة عشر، والجرحى يزيد عن الثلاثين.
المذيع يسأل المراسلة: وماذا عن باقي مناطق قطاع غزة؟
المراسلة: وصل عدد الشهداء خلال ثمانٍ وأربعين ساعة إلى خمس وستين شهيداً، هذا في رفح فقط، أكثر من الثلث من الأطفال، حيث قُصفت مدرسة رابعة العدويه، ودخل الرصاص في مدارس العرب البعيدة، في آخر مخيم الشابورة من جهة الشمال، ووصل الرّصاص إلى مدرسة فاطمة الخطيب، شرق مخيم يبنا.
كما أن هناك شهيدين في خان يونس، وثلاثة شهداء في بيت حانون، وثلاثة في مناطق متفرقة من الضفة الغربية.
المراسلة: جمال؛ سأوافيكم بتقرير مصور في النشرة المقبلة.
الوالد: يضرب كفاً بكف، لله أكبر، حسبي الله ونعم الوكيل؛ والطفل مشدوهاً، أهذا هو حال الأمة العربية، أين صلاح الدين، أين المعتصم، أين أنت يا أبو قدامة المقدسي لتنادي يا خيل الله اركبي، هل أصبحت نساء العرب لا تنجب إلاّ المتخاذلين من الزعامات، أَين أنت يا خنساء؟ أين أنت يا دلال؟ أين أنت يا نسيبة؟ حسبي الله ونعم الوكيل.
الوالد يكمل الحديث: هذه هي حقوق الطفل عند إسرائيل، ومن يُساند إسرائيل يا بني، قتلٌ وخرابٌ وتدميرٌ وقلعُ أشجارٍ، وهدمُ بيوت.
ناصر: أبي؛ بالأمس هدموا حديقة الحيوانات التي في مخيم البرازيل، والحيوانات التي لم تمت هربت.
الوالد: بدل من أن يكون لكم ملاعب مثل كل أطفال العالم، وبدل أن يكون لكم حدائق عامة، وبدل أن يكون لكم مكتبات وملاهي مثل باقي خلق الله، هاهم يدمِّرون بيوتنا على من فيها.
وبدل هذا وغيره هاهم يجرِّفون مزروعاتنا، ويهدمون بيوتنا، ويردمون آبار المياه، ولا يمكننا الوصول إليها حتى بعد الخراب والدمار الذي أوجدوه.
وبدلاً من حمايتنا كمدنيين، وحمايتكم كأطفال طبقاً للقانون الدولي، واتفاقيات جنيف، وأخلاق الأمم المتحضرة، هاهم يقتلوننا ويقتلون أطفالنا.
ناصر: لماذا يقتلون الأطفال كثيراً يا والدي؟
الوالد: لأنكم أمل الغد، وأنتم المستقبل، وأنتم حلم هذا المجتمع المظلوم في عدم تمكنه حتى اليوم من التحرر من الاحتلال، يقولون الكبير يموت، والصغير ينسى، هل ستنسى فلسطين يا ناصر؟
ناصر: بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
بسم الله الرحمن الرحيم
سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ .
صدق الله العظيم
ردد الوالد صدق الله العظيم.
ثم أنشد ناصر لوالده:
أنا الطِّفْلُ إنّيْ أُنَاجِيِ الْحَيَاةَ
وَقُدْسِيْ بِصَدْرِيْ لِقَلْبِيْ شَقِيْقْ
نُحِبُّ الحَيَاةَ وَمَوْتَ الكِرَامِ
وَنَأبَى الحَيَاةَ بِذُلِّ الرَّقِيْقْ
فَهَذِيْ دِيَارِيْ وَرَبِّ الهُدَى
وَمَنْ لا يُرِيْدُ بِحَرْبِيْ يَضِيْقْ
وَمَنْ سَيُفَكِّرُ سَلْبِيْ الرُّجُوعَ
لِيَعْلَمَ أَنِّيْ دِمَاْهُ أُرِيْقْ
وَمَنْ لا يُعَانِقُ أَرْضَ الرِبَاطِ
بِنَوْمٍ يَغُطُّ فَهَلاّ يَفِيْقْ
أّلَمْ تَعْلَمُوا بَعْد أَنَّ الشَّهِيْدَ
فِي أَرْضِ الرِّبَاطِ كَطَيْرِ الفِنِيْقْ
فَهَيَّا نُجَدِّدُ عَهْدَ الشَّهِيْدِ
وَنُقْسِمُ أَنْ لا نَحِيْدُ الطَرِيْقْ.
فرح الوالد، وصفق لابنه طويلاً، يسلم لسانك، القرآن وعرفنا من أين، ولكن هذا النشيد الجميل من كتبه، ومن أعطاك إياه؟ إنه لكلام جميل يا بني.
ناصر: إنه العم أبو الفرج؛ صاحبك يا والدي، ولقد أعطاه لي وقرأته نشيدَ الصباح في المدرسة، حفظته كله عن ظهر قلب وهو طويل، وأخذت عشر علامات ونجمة.
الوالد: ما شاء الله، الله يرضى عليك، نشيد حلو، الله يفرجها علينا وعليك يا أبو الفرج، ولماذا لم تقل لي يا ابن أبيك؟
ناصر: أبقيتها مفاجأة لك يا أحلى أب في الكون.
الوالد يقبل ابنه من بين عينيه فَرِحاً، وينادي زوجته.
يا أم الناصر: هاتِ الشاي وتعالي اسمعي ابنك، حاجة ترفع الرأس.
ترد الأم: حاضر؛ ابن الإوز عوّام يا أبو ناصر.
الأب: "ليش ما تقولي" ثلثين الولد لخاله، يمكن طالع لخاله.
الأم: قالوا "يمكن المرأة تلد أخوها، وأخوي صديق عمرك ولاّ نسيت".
ناصر: المكان هنا مكشوف يا والدي، وإطلاق النار كثيف، سأذهب عند جدي، ولم يُكمل.
وقبل أن تصل الوالدة، تكون زخات رصاص الغدر قد ملأت الفضاء، تدخل الأم، ولكن؛ لن تسمع ناصر يعيد النشيد.
زغردت الأم، ثم بهتت، ثم زغردت، وكانت ثغور مدامع في ثغور ابتسام مقتول، وكأنها قطرات رهام في ضوء شمس خجول، وبكلمات مرتجفة ارتجاف جسد ناصر قبل ثوانْ، وقلب الأم يُملي على لسانها:
لا تَنْسَ أَنْ تَشْفَعَ لِيْ يَا نَاصِر؛ فَأَنَا أُحِبُكَ كَثِيراً، وَسَلِّمْ على أَعْمَامَكْ وأَخْوَالَك، وشَبَاب الحَارة في الجنة، حبيبي يامَّا..
يا أبو ناصر: "خلي المعرّش نفس المعرّش، اليوم الثاني لخاله".
الوالد يقبل جبين ابنه ولسان حاله يقول:
هذا هو حقك يا بني من الغدر الصهيوني، حسبي الله ونعم الوكيل، إني أرد الأمانة إلى خالقها، الحمد لله، الحمد لله، وإنا لله وإنا إليه راجعون، الله يرضى عليك، سامحني يا بنيّ لم أستطع حمايتك من الغدر، أسأل الله أن تكون من الشهداء، وتشفع لنا يا بني، ويمسح دمعة وقار غلبته ويرتل:
{* وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ*}
صدق الله العظيم
أم ناصر تردد: صدق الله العظيم
القصة والنشيد بقلم
أبو الفرج تميم